ترامب والدولار- سياسات تهدد الهيمنة المالية العالمية؟

المؤلف: ماكسيميليان هيس09.13.2025
ترامب والدولار- سياسات تهدد الهيمنة المالية العالمية؟

الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب تنطلق بتحولات جذرية

مع إطلالة الولاية الرئاسية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، تهب رياح التغيير العاتية على أروقة السياسة في واشنطن، وتطال ارتداداتها علاقات الولايات المتحدة مع مختلف دول العالم. إن نبذ الوضع الراهن بات سمة واضحة لهذه المرحلة، حيث تتوالى القرارات الجريئة، بدءًا من فرض رسوم باهظة على السلع الكندية، الحليف الأكثر إخلاصًا لأميركا، وصولًا إلى التلويح بإمكانية السيطرة على غزة، والتهديد بضم غرينلاند، والسعي الدؤوب للتواصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بهدف إنهاء أتون الحرب المستعرة في أوكرانيا، كل ذلك يشكل سيلًا من الأحداث المتسارعة، يحمل في طياته أبعادًا استراتيجية عميقة ومدروسة.

التعريفات الجمركية وتأثيرها بعيد المدى

على الرغم من أن التعريفات الجمركية التي يفرضها الرئيس ترامب قد لا تبدو الخطوة الأكثر إثارة للدهشة في سياسته الخارجية خلال ولايته الثانية، إلا أنها تحمل في طياتها القدرة على إحداث تأثيرات عميقة وبعيدة المدى.

وكما هو الحال مع العديد من السياسات الأخرى التي تثير ضجة إعلامية واسعة، تندرج خطة التعريفات الجمركية ضمن استراتيجية أوسع نطاقًا تهدف إلى إعادة صياغة ملامح الاقتصاد الأميركي.

ويؤكد الرئيس ترامب بإصرار على أنه سيفرض تعريفات جمركية على أوروبا والصين وجميع الشركاء التجاريين الآخرين للولايات المتحدة، وذلك بهدف إعادة توطين الصناعات في الداخل، وتحقيق شعاره الذي يتردد صداه على نطاق واسع: "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى".

انعكاسات التعريفات الجمركية على قيمة الدولار الأميركي

إلا أنه في هذه الحالة، يبدو من غير المرجح أن يحقق الرئيس ترامب أهدافه الطموحة على المدى الطويل، وذلك بسبب التأثيرات الجانبية غير المقصودة التي ستتركها هذه التعريفات على قيمة الدولار الأميركي. فتكاليف التصنيع في الولايات المتحدة تفوق مثيلاتها في أوروبا، فضلًا عن آسيا، ممّا يعني أن التطبيق الفوري للتعريفات الجمركية، والتهديد بفرض المزيد منها، سيؤدي إلى ارتفاع توقعات التضخم، وإطلاق العنان لدورة جديدة من قوة الدولار مقابل العملات الرئيسية الأخرى.

وعلى الرغم من أن قوة الدولار قد تبدو ظاهريًا قادرة على الحد من التضخم، إلا أن التعريفات الجمركية، وما يصاحبها من توقعات، تزيد من تكاليف التجارة، مما يقلل من الفوائد المحتملة لقوة الدولار.

علاوة على ذلك، أوقف مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي دورة خفض أسعار الفائدة، بينما تواصل البنوك المركزية الأخرى، مثل بنك إنجلترا والبنك المركزي الأوروبي، خفض أسعار الفائدة في محاولة لتحفيز النمو في مواجهة التهديدات التجارية المتزايدة. ومع ذلك، فإن الهيمنة المطلقة للدولار على النظام النقدي العالمي تعني أن التوقعات بعوائد أعلى على الأصول الأميركية ستعزز قوة الدولار بشكل أكبر.

امتياز "الدولار المفرط" على المحك

لطالما كان الطلب العالمي المتزايد على الدولار الأميركي العامل الرئيسي الذي جعله الصادر الرئيسي للولايات المتحدة، وهو ما مكّن واشنطن من إدارة عجوزات تجارية ومالية دون أن يؤثر ذلك سلبًا على الاقتصاد. وقد أدرك الرئيس ترامب تدريجيًا أهمية حماية هذا النظام، وراح يهدد بفرض تعريفات بنسبة 100٪ واتخاذ إجراءات أخرى ضد الدول التي تسعى إلى فك الارتباط بالدولار والانضمام إلى منظمة "بريكس" المدعومة من روسيا والصين.

يرى الرئيس ترامب أن مهمته لا تقتصر فقط على إعادة هيكلة السياسة المالية لدعم الصناعة المحلية، بل تشمل أيضًا وضع قواعد جديدة تنظم عمل النظام النقدي الدولي.

باختصار، يسعى الرئيس الأميركي إلى ضمان بقاء الدولار في موقع يسمح له بالتداول بقيمة أضعف مقارنة بالعملات الأخرى، دون أن يفقد مركزيته، لا سيما بالنسبة للأوراق المالية الحكومية الأميركية، في النظام النقدي العالمي.

احتمالية التوصل إلى اتفاقيات لترسيخ استقرار الدولار

أثار هذا الوضع جدلًا واسعًا حول ما إذا كانت إدارة ترامب تسعى إلى التوصل إلى اتفاقيات جديدة لترسيخ استقرار الدولار مع الحكومات الأخرى وبنوكها المركزية، على غرار اتفاق "بلازا" و"اللوفر" في ثمانينيات القرن الماضي. وفي الواقع، فإن الحديث عن محاولة الرئيس ترامب التوصل إلى ما يسمى بـ "اتفاق مارا لاغو" بات موضوعًا متداولًا بين الاقتصاديين.

لكن تحقيق هذه الاتفاقية لن يكون بالأمر الهين، فالظروف الحالية تختلف جوهريًا عن تلك التي سادت في ثمانينيات القرن الماضي، عندما تركزت الجهود على اليابان، حيث رأت الولايات المتحدة أن ضعف الين يمثل خطرًا يهدد مصالحها، وسعت جاهدة لتصحيح هذا الوضع.

لم يكن ذلك تحديًا كبيرًا، نظرًا لأن طوكيو كانت -ولا تزال- حليفًا وثيقًا للولايات المتحدة. أما الصين، فهي ليست كذلك بأي حال من الأحوال، وهي أقل استعدادًا للدخول في مفاوضات، حيث تشير إلى الآثار السلبية لاتفاقيات الثمانينيات على اليابان، والتي أدت إلى ما يعرف بـ "العقود الضائعة"، كسبب رئيسي لعدم رغبتها في رفع قيمة عملتها مقابل الدولار.

ترامب يوظف النظام النقدي العالمي لأغراض الضغط السياسي

يظهر الرئيس ترامب استعدادًا واضحًا لاستخدام النظام النقدي العالمي كسلاح لتحقيق مكاسب وأهداف طويلة الأمد، حتى لو لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بالتجارة. وحتى أقرب حلفاء الولايات المتحدة يجب أن يكونوا على أهبة الاستعداد لمواجهة تهديدات تتجاوز مجرد التعريفات الجمركية.

وقد تجلى ذلك بوضوح في تهديده بفرض "عقوبات مالية ومصرفية وخزانة" على كولومبيا في أواخر شهر يناير/كانون الثاني، إذا لم تقبل طائرات عسكرية أميركية تحمل المرحلين، وهي خطوات تُستخدم عادةً ضد الدول المارقة مثل كوريا الشمالية وإيران وروسيا.

هل ستؤدي سياسات ترامب إلى تقويض هيمنة الدولار؟

قد تكون هذه التهديدات ذات آثار اقتصادية مدمرة أكثر من مجرد التعريفات الجمركية، وذلك نظرًا للمكانة المحورية للدولار الأميركي وأوراقه المالية الحكومية والنظام المالي الأوسع نطاقًا في الاقتصاد العالمي.

لكن استعداد الرئيس ترامب لاستخدام هذه الأدوات ضد الحلفاء يعني أنه لن يكون لديه أمل في الدخول في مفاوضات مع الصين بدعم اقتصادي من حلفائه.

وستحاول بكين والدول التي تساند تقويض النظام القائم على الدولار استغلال هذه الثغرات، إذ إن تفكيك هذا النظام يمثل هدفًا أسمى بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى من إضعاف حلف الناتو.

يسعى الرئيس ترامب إلى إعادة هيكلة النظام النقدي الدولي بما يخدم مصالح الولايات المتحدة، إلا أن تحركاته تشير إلى أنه لا يدرك تمامًا مدى تعقيد هذا النظام. وقد ظهر ذلك جليًا عندما تحدث عن مستويات الإنفاق في الناتو خلال زيارته لإسبانيا بعد فترة وجيزة من توليه منصبه، حيث أخطأ في تصنيفها كعضو في مجموعة "بريكس".

النظام النقدي القائم على الدولار لم يكن أميركيًا بالكامل، بل نشأ إلى حد كبير في أوروبا، حيث بدأت البنوك في إصدار القروض بالدولار في الخمسينيات لتلبية الاحتياجات التمويلية الإقليمية.

وبناءً على ذلك، فإن تقويض ترامب لوحدة السياسة الخارجية بين الولايات المتحدة وأوروبا، تحت شعار "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، قد ينتهي به الأمر إلى الإضرار بالنظام المالي القائم على الدولار، والذي ساهم في تعزيز قوة أميركا لعقود.

التباين بين مجموعة "بريكس" والدول الأوروبية

يكمن الفرق الجوهري بين دول مجموعة "بريكس" والدول الأوروبية، مثل إسبانيا، في أن أغلب أعضاء "بريكس" يحققون فائضًا تجاريًا على مستوى العالم، حيث تتجاوز صادراتهم وارداتهم، كما أنهم يفرضون قيودًا كبيرة على حركة رؤوس الأموال.

أما في أوروبا، فالقوة التجارية وحدها لا تكفي لدعم مستويات الإنفاق الحكومي في معظم دول الاتحاد الأوروبي أو المملكة المتحدة، ولا حتى في اليابان، التي تتجاوز نسبة دينها إلى الناتج المحلي الإجمالي أي اقتصاد رئيسي آخر.

وعليه، فإن هؤلاء الحلفاء التاريخيين هم المقترضون الرئيسيون في أسواق رأس المال الدولية، بينما تسعى الدول ذات الفوائض، مثل الصين، إلى استثمار أموالها في هذه الدول.

ترامب يغامر بتقويض النظام المالي العالمي

إن تحركات الرئيس ترامب، مثل التعريفات الجمركية والتهديدات بضم أراضٍ تابعة لحلفاء الولايات المتحدة، تعمل على إضعاف هذا النظام. كما أن تهديداته الجيوسياسية بإعادة تشكيل النظام النقدي، وإن كانت تستهدف بكين في الظاهر، إلا أنها تهدد أيضًا بتفكيك التحالف السياسي والاقتصادي المتين بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين.

إذا نجح الرئيس ترامب في تحقيق رؤيته، فقد يسفر ذلك عن بعض المكاسب للصناعة الأميركية، إذ إن نمو قطاع التصنيع، الذي يمثل حاليًا 10.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي، سيعزز الدعم لقاعدته الانتخابية.

لكن الخطر الحقيقي يكمن في أنه، أثناء محاولته تحقيق ذلك، قد يتسبب في انهيار النظام القائم على الدولار الأميركي، وهو ما سيكون له تداعيات وخيمة على الاقتصاد الأميركي، حيث سيؤدي إلى تضخم حاد وركود اقتصادي عميق.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة